جامعيون »حراقة » على متن قارب وزارة التضامن
رحلة الموت تحت الرعاية السامية لرئيس الجمهورية
كاد »المعلم قرنيط » إلغاء الرحلة رافضا أن يحمل القارب لافتتين اثنتين أحضرهما الجامعيون الستة خصيصا لهذه الرحلة وإعطائها ميزة خاصة مبرمجة تجاه سردينيا انطلاقا من شاطئ البطاح بالطارف، وهي الرحلة التي حضرتها »الخبر » بداية من الساعة العاشرة ليلة الخميس إلى الجمعة، وعشنا فيها المشاهد التراجيدية التي استرجعت فينا حقيقة مآسي الشباب.
وصلنا شاطئ البطاح في الموعد المحدد ولبضعة دقائق ترصدنا الإشارة الضوئية المنتظرة فكانت من أدغال وادي مفراغ الذي يصب في البحر، أين ركن »المعلم قرنيط » القارب وتأكدنا بأنه واحدا من »قوارب وزارة التضامن » الذي وزعته على شباب سكان سواحل الطارف سنة .2001
المكان حالك الظلام وبصعوبة تقفينا مسالك الوحل المجاورة لوادي مفراغ باتجاه الشاطئ الرملي، أين يقبع الجامعيون الـ6 وقد جمعوا كل المعطيات العلمية عن الأحوال الجوية وقد سجلوا ضعف الرؤية مع التيارات البحرية ليلة الخميس إلى الجمعة، والتي كانت ساخنة الأجواء بفعل الحرائق المشتعلة في أغلب الجبال الغابية للولاية، بين موقع الرسو للقارب على حافة الوادي وشاطىء البطاح مكان الإقلاع زهاء 200 متر، عند الساعة العاشرة و50 دقيقة ليلا بدا شبح القارب يتحرك بالمجداف وسط الظلام يقترب إلى مصب الوادي في البحر، وعلى متنه »المعلم قرنيط » الخبير في البحر والمعدات البحرية، كان القمر يقترب من شكله البدري في كبد السماء بلون أصفر مائل للاحمرار بفعل تلبد السماء بدخان الحرائق، فكان ضياؤه غير كاف للرؤية، المعلم قرنيط الوحيد المرخص له باستعمال مصباح البطارية راح يراقب ما يحمله الجامعيون فردا فردا فوقع شعاع المصباح على لفتي قماش أبيض أمر بفتحهما فكانت الأولى لافتة لجملة باللغة الإنجليزية »رحلة الموت تحت الرعاية السامية لرئيس الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية » بينما حملت الثانية جملة في شكل سؤال ختم بعلامتي استفهام وتعجب »احتياطي الصرف 100 مليار سنتيم لمن؟ »، ثارت ثائرة المعلم قرنيط رافضا ربط الرحلة بالمتاهات السياسية وهدد بإلغاء العملية وإعادة القارب إلى موقعه تحت أدغال غابة ضفاف وادي مفراغ، ولم يجد الجامعيون »الحرافة » من خيار إلا التنازل عن اللافتتين القماشيتين. كان زادهم »الغرس » والمياه والوقود والحالة الجيدة للقارب والمحرك تضمن الوصول إلى الضفة الأخرى في ظرف 18 ساعة، والأهم من ذلك تجاوز حدود المياه الإقليمية والدخول في الرواق الدولي يعد نجاح الحرفة بنسبة 50 بالمائة.
غدا في الصباح ستجدون أنفسكم في سواحل إيطاليا
كانت عيون الجامعيين الستة صوب سطح مياه البحر البعيد في الأفق تقرأ ألف سؤال مع التخوف بكثير من التخوف للطريق البحري مجهول العواقب، فيتدخل المعلم قرنيط ليطمئن الجماعة فقال بلغة الواثق قبل ساعة انطلق من شاطئ سيدي سالم بعنابة قاربان وثالث من من شاطئ طوش بنفس المدينة، وهذه الصبيحة وصل 30 شابا إلى سواحل سردينا، ويضيف، غدا عندما يبزغ الفجر ستجدون أنفسكم على مشارف سواحل إيطاليا ويختم هيا نتوكل على الله كلنا نحب الجزائر وطنا لا بديل عنه، ولكن حولوه رمادا وجعلونا حطبا لشراهة نيران الفقر.
ونحن نتابع هذه المشاهد التراجيدية تراجع في ذهننا شريط ما قرأناه وكتبناه بأيدينا من مقالات صحفية عن مظاهر الفساد والحفرة والإقصاء والتهميش والفقر المدقع، بما فيها التي مستنا في سياق متاعب المهنة، قبل هذا وذاك وفي الوقت الذي كان فيه المعلم قرنيط يعد آخر اللمسات على قارب الرحلة، سألنا الجامعيين الحرافة كم كلفت الواحد منهم فكان الجواب كما هو معمول به لدى جميع الحرافة 8 ملايين سنتيم، فسألنا بأن المبلغ كاف وقابل لاستثماره في مشروع ما، ضحك الجميع من سخافتي على حد تعبير أحدهم وقال ومن يسمح لك بالاستثمار وكيف تسدد الضريبة التي يميل ثقلها على الضعفاء ويسقط أداؤها عن الأثـرياء في سوق مليئة بالمتناقضات ومعدومة من بسط سيادة القانون.
وسألت مستسمحا معرفة هويتهم واختصاصاتهم الجامعية فكان البادئ سمير، 32 سنة، محاسبة واقتصاد ضحية مقلب إداري لكونه حاول اكتشاف ثغرة مالية في مؤسسة عمومية اشتغل بمصالحها لمدة 9 أشهر، وعبد السلام، 27 سنة، علم الاجتماع فرع الثقافة التي بحث عنها ولم يجد فيها إلا الرداءة والأبواب الموصدة في وجهه.
كمال، 22 سنة، خريج جديد في الكيمياء يريد عدم تضييع سنوات شبابه في البحث عن منصب مفقود، السعيد، 23 سنة، مهندس فلاحي فاقد الأمل في محيطات فلاحية بور وعقيمة على مدار السنة، شمس الدين خريج مهندس في الري رفضت البنوك تمويل مؤسسته المصغرة كمقاول في الأشغال العمومية، وأخيرا مراد، 28 سنة، خريج معهد الحقوق والعلوم الإدارية يختم بأنه يبحث عن حق ضائع في بلد يفتقر إلى دولة القانون، وجميعهم من سكان دوائر الجهة الغربية لولاية الطارف.
كانت الساعة تشير إلى الدقيقة العاشرة بعد منتصف الليل، بمعنى أن إقلاع الرحلة تأخر لأكثـر من ساعتين بسبب الخلاف على شعارات الرحلة التي تخلص منها المعلم قرنيط حرقا في آخر المطاف، وعلى مسافة نصف ميل بحري بعرض الساحل تحرك القارب بمسافريه الحرافة في صمت الليل تدفع المجاديف، وما أن غاص في عتمة سطح البحر حتى سمعنا صوت المحرك وتراءت لنا الأخاديد البيضاء لتموجات المياه الناتجة عن قوة الدفع وسرعة القارب..
أما نحن فقد عدنا من حيث أتينا أين كانت سيارة صديقي »الفرود » تنتظرني عند جسر وادي مفراغ.
في مساء اليوم الموالي وصلتني مكالمة هاتفية من كمال أكد وصول جماعته بخير وهم في استراحة بأحد مراكز الإيواء للصليب الأحمر بعد إجراءات أمنية، وأضاف بأن مرافقهم السعيد حول إلى مصلحة استشفائية إثـر إصابة بالدوار والحمى.. كنت أعتقد بأني بطل ترصدي وحضوري لرحلة الحرافة فتفاجأت بما يتداول بالحي الشعبي الذي أقيم فيه بالذرعان بأن ذات الليلة الفاصلة بين الخميس والجمعة الأخيرين كانت أروقة البحر باتجاه إيطاليا مفتوحة على مصراعيها ووصل عدد الحراقة 36 على متن 5 قوارب انطلاقا من الساحل البحري بين عنابة والطارف، وبدا الأمر عاديا لدى أهالي الحرافة، بل وأصبح مفخرة وعلامة رضا وسعادة عندما تطأ أقدام الحرافة الضفة الشمالية للبحر المتوسط.